التعليم مقابل الولاء.. معركة ميليشيا الحوثي على عقول أطفال اليمن

التعليم مقابل الولاء.. معركة ميليشيا الحوثي على عقول أطفال اليمن

في خضم الصراع الدائر في اليمن، لا تقتصر المعاناة الإنسانية على ويلات الحرب المباشرة وقصف الطائرات ونزوح السكان، بل تمتد لتطول أجيالاً بكاملها: مستقبلها، ووعيها، من خلال تحولات جذرية تُفرض على التعليم الذي يعد أحد أهم ركائز بناء المجتمعات.

ومنذ سيطرة ميليشيا الحوثي على مناطق واسعة في اليمن، تحولت المدارس من بيئات لغرس العلم والمعرفة وقيم التسامح والمواطنة، إلى ساحات لإعادة التشكيل الأيديولوجي، ومنابر لترسيخ خطاب الكراهية والولاء المطلق، هذه التغييرات المنهجية التي تتجاوز مجرد التحديث الأكاديمي، تعيد تعريف الهوية الوطنية والاجتماعية للطفل اليمني، ممهدةً الطريق لنزاعات مستقبلية محتملة ووعي مشوه، ومسلحةً جيلاً بأفكار تُبعده عن قيم التعايش والسلام. 

وأصبحت المدرسة، التي كانت ملاذاً للأحلام والطموحات، مكاناً للخوف والقلق، حيث تُستبعد الكفاءات التعليمية الوطنية، وتُفرض مناهج طائفية، وتلقن الأجيال شعارات لا تنتمي إلى واقعهم أو آمالهم، ويسلط هذا التقرير الضوء على هذه التحولات الخطيرة، مستعرضاً الأبعاد الأيديولوجية والعملياتية لتغيير المناهج، ومقدماً قصصاً إنسانية مؤثرة لطلاب ومعلمين عاشوا هذه التجربة المريرة، ليكشف عن الأثر العميق لهذه السياسات على النسيج المجتمعي اليمني ومستقبل أجياله.

سلمى والمدرسة التي تغيرت

سلمى، 16 عاماً، في الصف الثاني الثانوي.. قالت: "أدرس في مدرسة حكومية وسط العاصمة صنعاء.. كنت أحب الذهاب إلى المدرسة، كنت أشعر أنها المكان الذي أحقق فيه أحلامي، حيث أتعلّم وأنمو وأرى المستقبل مشرقاً أمامي، لكن كل شيء تغير في السنوات الأخيرة، تغير بطريقة لم أكن لأتخيلها أبداً".

تتنهد سلمى، وعيناها تحملان وهجاً من الحزن والأسى، كأنها تستعيد مشاهد مؤلمة من ذاكرتها: "في البداية، لاحظت أن الكتب تغيرت.. دروس التربية الإسلامية والتاريخ لم تعد كما كانت، صارت تتكلم كثيراً عن شخصيات لم أسمع بها من قبل، وتعيد شرح قصص كنا نعرفها بطريقة جديدة تماماً، حتى في اللغة العربية، أضافوا نصوصاً غريبة، كلها تدور حول الولاء والطاعة، والحديث عن العدو والخطر الذي يتربص بنا. شعرت وكأن شيئاً ما يسحب ببطء هويتي التي كنت أعرفها".

تواصل سلمى في حديثها، وصوتها يختنق بمرارة التجربة: "الكثير من المدرسات القدامى لم أعد أراهن، جاءت بديلات عنهن، أغلبهن يلبسن عباءات سوداء ووجوههن جادة، كأنهن لا يعرفن الابتسام، صرنا نسمع عن "الزينبيات"، وهن مدرسات يراقبن كل شيء؛ كيف نتصرف، ماذا نقول، وحتى مع من نجلس، لم تعد هناك مساحة شخصية، شعرت وكأنني محاصرة في كل زاوية من مدرستي. كل أسبوع صار عندنا "دورة ثقافية" يجب أن نحضرها إلزامياً، فيها نقرأ كتباً يسمونها "الملازم"، ونتعلم عن "الجهاد" و"العدو" و"الثبات"، من تتأخر أو تتغيب تُعاقب أو تُوبخ أمام الجميع، وكأننا في معسكر تدريب لا في مدرسة علم، وحتى في العطلة الصيفية، أجبرونا على التسجيل في مركز صيفي، هناك تعلمنا أناشيد جديدة، ورفعنا شعارات لم أكن أفهمها في البداية، بعض البنات تم اختيارهن لدروس خاصة، قالوا لنا إنها "تدريبات"، لكننا كنا نسمع أن فيها تعليماً عن أشياء غير الدراسة".

تنهي سلمى حديثها: "كل أسبوع تقريباً هناك فعالية جديدة في المدرسة، إحياء ذكرى أو مناسبة، ويجب أن نشارك ونرفع شعارات ونردد هتافات، من ترفض المشاركة أو تتأخر في الحضور تُحرم من الدرجات أو توبخ أمام الطالبات، صرت أشعر أن المدرسة لم تعد كما كانت، الكلام عن التسامح والمحبة اختفى وصار كل شيء عن "العدو" و"الولاء"، حتى صداقاتي تغيرت، بعض البنات أصبحن يرددن كلام الدورات، والبعض الآخر صار يخاف أن يعبر عن رأيه، أحياناً أخاف أن أناقش أي فكرة أمام المدرسات أو حتى صديقاتي خوفاً من أن يتم الإبلاغ عني، أشتاق للمدرسة التي كنت أعرفها، مكان للعلم والضحك والأحلام، الآن أشعر أنني غريبة، كأنني أعيش في عالم لا يشبهني، كل يوم أرجو أن يعود كل شيء كما كان، وأن أستعيد مدرستي التي أحببتها".

تغيير المناهج كأداة للسيطرة

منذ سيطرتها على مناطق واسعة في اليمن، أدركت ميليشيا الحوثي أن مفتاح ترسيخ سلطتها وبقائها يكمن في السيطرة على العقول والقلوب، وهذا دفعها إلى استهداف القطاع التعليمي بشكل ممنهج. 

وأعلنت وزارة التربية والتعليم التابعة لهم عن طبعات لمناهج جديدة في المحافظات الخاضعة لسيطرتها، ولم يكن هذا التغيير مجرد تحديث أكاديمي، بل كان تحولاً جذرياً في المحتوى والصور والأفكار، حتى على مستوى الأسماء والشخصيات المضافة. 

وتركز التغيير على مواد الهوية الأساسية في اليمن.. القرآن والتربية الإسلامية، واللغة العربية، والاجتماعيات، وهو ما يؤكد أن الهدف الأسمى من هذه التغييرات هو فرض هوية جديدة تتوافق مع الفلسفة الدينية والأيديولوجية لميليشيا الحوثي.

كانت وزارة التربية والتعليم، قبل سيطرة الحوثيين، قد شكلت فرقاً وطنية لتنقية الكتب من أي تحيز طائفي، بهدف تعزيز الوحدة الوطنية، لكن هذا المسار توقف تماماً مع قدوم الحوثيين، الذين بدؤوا بتغيير المناهج تدريجياً منذ عام 2017، بعد أن انفردوا بالسلطة. هذا التغيير ليس علمياً أو تربوياً، بل هو تغيير طائفي بامتياز، يفرض وجهة نظر الحوثي في القضايا الفقهية والتوجهات السياسية، ويُبرز رموزهم، ويُشعل الصراعات القديمة، ويوجه الجيل نحو ما يمهد لهيمنتهم ويزرع بذور العنف في نفوسهم. 

ويهدف هذا التحريف المتعمد لتاريخ اليمن العريق، وإحلال رموز الجماعة بدلاً من الرموز الوطنية، إلى تجهيل الشعب بتاريخه الحقيقي ورموزه التاريخية، وبالتالي تسهيل عملية السيطرة الأيديولوجية.

قصص المعلمين المهجرين

لم يقتصر تأثير سياسات ميليشيا الحوثي على المحتوى التعليمي فحسب، بل امتد ليشمل العمود الفقري لأي عملية تعليمية ناجحة. في البداية، توقف عشرات المعلمين عن التدريس وانتقلوا للمدارس الخاصة بسبب الانقطاع المزمن للرواتب، وهو سلاح استخدمته الجماعة لإجبار الكفاءات على الرحيل، وتبع ذلك استبعاد ممنهج للعديد من المدرسين، ووصل الأمر إلى حد الفصل والسجن والاعتقال لكل من يُشتبه في عدم ولائه للجماعة، والمفارقة المؤلمة أن الأمر وصل إلى اعتقال شخصيات مرموقة من مؤلفي المناهج الوطنية، واتهامهم علناً بالعمالة لقوى خارجية.

على النقيض، عملت ميليشيا الحوثي على استبدال الكوادر التعليمية القديمة بكوادر جديدة خضعت لدورات تدريبية خاصة، هدفها الوحيد هو تلقين الطلاب أفكار الجماعة، ما يزيد الأمر سوءاً أن بعض هؤلاء المدرسين الجدد لا يمتلكون أدنى المؤهلات الأكاديمية، بل إن بعضهم لا يستطيع الكتابة أو لم يحصل على أي مؤهل جامعي، وكأن الانتماء للجماعة أصبح المؤهل الوحيد للتدريس.

الأستاذ عبد السلام محمد، رجل في الخامسة والأربعين من عمره، يحكي قصته لـ"جسور بوست": "كنت أعمل مدرساً في صنعاء، ولم أتخيل يوماً أن أضطر لمغادرة المدينة التي عشت فيها عمري كله، والتي تحمل كل ذكرياتي وأحلامي، لكن ما حدث في المدارس بعد سيطرة الحوثيين جعل البقاء مستحيلاً بالنسبة لي كمعلم يؤمن برسالة التعليم النبيلة".

يصف عبد السلام كيف بدأت التغييرات: "في البداية لم تكن واضحة، لكن سرعان ما بدأت ألاحظ أن المناهج تتغير أمام أعيننا، الكتب الجديدة كانت مليئة بعبارات وشعارات لم نعتدها، وكل درس صار يحمل رسالة تمجد الجماعة وتدعو للولاء لها، حتى في حصص اللغة العربية والقرآن والإسلامية والتاريخ، أصبحنا نقرأ نصوصاً تمجد القائد وتعيد تفسير الأحداث التاريخية بطريقة تخدم فكرهم، لم يعد هناك مكان للحياد أو النقاش، بل تعليمات صارمة بضرورة الالتزام بما هو مكتوب، كأننا آلات تردد ما يُملى عليها".

يضيف عبد السلام: "الأمر لم يتوقف عند الكتب، فُرضت علينا كمعلمين دورات ثقافية إلزامية، كنا نجتمع فيها أسبوعياً لنستمع إلى محاضرات عن الجهاد والثبات والعدو الخارجي، كان واضحاً أن الهدف ليس التعليم، بل التعبئة العامة، كثير من زملائي رفضوا هذا الأسلوب، بعضهم أجبر على الاستقالة، والبعض تم استبعاده بشكل تعسفي، أما من بقي، فكان عليه أن يثبت ولاءه للجماعة في كل تصرف، حتى في طريقة حديثه مع الطلاب، شخصياً، لم أستطع أن أكون جزءاً من هذا التحول، حاولت أن أحتفظ بمسافة، أن أركز على دروسي فقط، لكن ذلك لم يكن ممكناً. بدأت أتعرض لضغوطات مباشرة، استدعاءات متكررة إلى مكتب التربية، أسئلة عن موقفي من الدورات، ولماذا لا أشارك في الفعاليات، وصلت الأمور إلى حد التهديد بالفصل من العمل، بل حتى التهديد غير المباشر بأني قد أتعرض للأذى أو الملاحقة إذا استمريت في الحياد، أضف إلى كل ذلك، أنني بقيت خمس سنوات كاملة بدون راتب، لم أحصل خلالها إلا على بعض الإعانات البسيطة من المنظمات الإنسانية، والتي بالكاد كانت تكفي لسد احتياجات أسرتي الأساسية".

في أحد الأيام، بعد استدعاء قاسٍ من أحد مشرفي الجماعة، عاد عبد السلام إلى بيته وهو يشعر أنه مراقب في كل خطوة، كان القرار صعباً، لكنه جمع أسرته وقرروا الخروج سراً إلى مأرب: "الطريق كان مليئاً بالمخاطر، نقاط التفتيش، الخوف من أن يتم التعرف علي كمدرس رفض الانخراط في مشاريعهم، لكنني كنت مقتنعاً أن البقاء أخطر من الرحيل، اليوم أعيش وأعمل في مأرب، حيث التعليم ما زال يحمل بعضاً من روحه الحقيقية رغم كل الصعوبات، هنا الطلاب يأتون ليتعلموا لا ليتلقوا شعارات".

قصة عبد السلام يُكملها يحيى معلم التربية الإسلامية من محافظة عمران: "لم تكن حياتي سهلة، لكنني كنت أؤمن أن التعليم رسالة سامية، وأنني أستطيع أن أزرع في طلابي قيم التسامح والمحبة، لكن مع سيطرة الحوثيين تغير كل شيء بسرعة، وأصبحت المدرسة مكاناً غريباً عني وعن رسالتي، لم يمر وقت طويل حتى بدأت ألاحظ تغييرات جذرية في المناهج، خاصة في مادتي التي أحبها، صار مطلوباً مني تدريس نصوص جديدة تمجد الجماعة وتربط كل القيم الإسلامية بالولاء لهم فقط، حتى التفسير والحديث تغير، وأصبحت الدروس تدور حول العدو والجهاد والثبات أكثر من أي شيء آخر، لم يعد هناك مجال لشرح معاني التسامح أو احترام الآخر، بل صار كل شيء يدور حول فكرة واحدة: الولاء للجماعة".

يضيف يحيى: "لم يكن الأمر يقتصر على المناهج، في كل أسبوع كان يتم استدعاؤنا كمعلمين لحضور دورات ثقافية إلزامية نستمع فيها لمحاضرات عن الثبات والجهاد والعدو الخارجي، كان هناك دائماً مراقبون في المدرسة، بعضهم من الطلاب أنفسهم يرفعون تقارير عن المدرسين والطلاب، أي كلمة أو رأي مختلف قد يضعك في دائرة الاتهام بعدم الولاء أو حتى بالخيانة، ومع الوقت بدأت أشعر أنني مراقب في كل لحظة، حتى بين زملائي، الضغوطات زادت، خاصة بعد أن تم استبعاد بعض المدرسين الذين رفضوا الانخراط في الأنشطة الطائفية أو الاعتراض على المناهج الجديدة، تلقيت أكثر من تهديد غير مباشر، وتم استدعائي عدة مرات إلى مكتب التربية، وفي النهاية، وبعد أن شعرت أن بقائي صار خطراً على نفسي وأسرتي، قررت الرحيل إلى مأرب رغم كل الأخطار التي قد أواجهها في الطريق".

"وصلت إلى مأرب بعد رحلة شاقة. هنا وجدت بيئة مختلفة رغم الصعوبات. المدارس مزدحمة جداً بسبب أعداد النازحين الكبيرة، وهناك نقص في الكادر التعليمي والمستلزمات. لكن الجو العام أكثر أماناً وحرية. أستطيع الآن أن أدرس مادتي دون خوف من أن أُتهم بسبب تفسير آية أو حديث، الطلاب هنا من مناطق مختلفة، وكل واحد يحمل جرحه الخاص، لكنهم يأتون ليتعلموا لا ليتلقوا شعارات سياسية أو طائفية، أعمل الآن في مدرسة مكتظة بالطلاب، أحياناً أدرس في قاعات مؤقتة أو خيام بسبب نقص الفصول، كثير من الطلاب فقدوا سنوات من تعليمهم بسبب النزوح أو الحرب، وبعضهم يعاني من صدمات نفسية، رغم كل ذلك، هناك مبادرات من منظمات إنسانية لتحسين الوضع وتقديم تدريبات للمعلمين لمساعدة الطلاب على تجاوز آثار الحرب".

تحويل المدرسة إلى ثكنة

ما يواجهه الأطفال في المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيا الحوثي يتجاوز مجرد تغيير المناهج أو استبعاد المعلمين، إنها عملية تحويل ممنهجة للبيئة التعليمية برمتها، من مكان للمعرفة إلى ساحة للتعبئة الأيديولوجية، وهذا ما تجسده شهادة عمار، الفتى البالغ من العمر 15 عاماً والذي يدرس في الصف الثالث الإعدادي بمدينة ذمار.

يقول عمار وعيناه تعكسان خيبة الأمل: "المدرسة صارت تشبه الثكنة العسكرية، لا مكان فيها للدراسة. كل صباح، يبدأ اليوم بالطابور الإجباري، حيث يصرخ المدرسون الجدد بالشعارات ويجب علينا ترديدها بصوت قوي. من يتأخر أو لا يردد الشعارات، يعاقب أمام الجميع، بالضرب أو التوبيخ الشديد. الأغاني الوطنية التي كنا نحبها اختفت معها".

يضيف بنبرة حزينة: “معظم المدرسين القدامى اختفوا، وحل مكانهم مدرسون جدد لا يعرفون إلا لغة الأوامر، هذا الشيء حصل ”حبة حبة"، لم يأتِ فجأة. تخيل أنهم يراقبوننا في كل مكان.. في الفصول، في الساحة، وحتى أثناء الاستراحة القصيرة. الحديث عن أي شيء خارج الدروس أو الشعارات ممنوع، ومن يخالف يتهم بعدم الولاء، وأنت داعشي أو مرتزق مع العدوان، غير أن أصحابي صاروا كثيري الجبهات بسبب اقتناعهم بهذا الشيء."

ويُكمل عمار: "كل أسبوع يجمعوننا في قاعة كبيرة لحضور "دورة ثقافية" عن "الجهاد" و"الولاء" ودروس السيد عبد الملك ومحاضرات وزوامل وأشياء كثيرة، تفرض علينا فعاليات ومناسبات خاصة بالجماعة، يجب أن نشارك فيها ونردد هتافاتهم. من يرفض أو يتأخر، يهددونه بحرمانه من الدرجات أو بإبلاغ أهله".

أكثر ما يؤلم عمار هو تأثير ذلك في صداقاته: "بعض أصدقائي صاروا يكررون كلام المدرسين ليحموا أنفسهم، وبعضهم أصبح صامتاً تماماً، وبعضهم صار مقاتلاً وحوثياً، ويضرنا، وبعضهم قُتل، وكانوا معي قبل سنتين أو ثلاث"، هذه الكلمات تحمل في طياتها مأساة جيل يُفقد براءته ويُدفع نحو العنف والصراع، ليصبح جزءاً من آلة الحرب بدلاً من أن يكون صانعاً للمستقبل.

المدارس.. مستنقع للكراهية

ما تكشفه قصص سلمى وعمار وعبد السلام ويحيى ليس مجرد حكايات فردية، بل هي تأكيد لما توثقه التقارير الحقوقية، والتي تُشير بوضوح إلى أن "المؤسسات التعليمية" قد تحولت إلى "مستنقع يطفح بالكراهية".

وتؤكد التقارير الحقوقية أن خطاب الكراهية في اليمن ليس ظاهرة عابرة، بل هو نتيجة لتشابك عوامل معقدة منها الصراع المسلح، والفقر، والبطالة، والتدخل الخارجي، ووسائل الإعلام، والفراغ التشريعي، وهذا الخطاب يتخذ أشكالاً متعددة، ويُستخدم بوعي من قبل أطراف الصراع، بما في ذلك الحوثيون، لترسيخ أفكار معينة وتغيير الهوية الوطنية، وصناعة جيل يتبنى أجنداتهم.

وقال الحقوقي اليمني توفيق الحميدي، إن الآثار والأخطار الناجمة عن تغيير الحوثي للمناهج الدراسية لا تقتصر على اليمن فحسب، بل تمتد لتشمل دول الإقليم والعالم الإسلامي ودول العالم الحديث، فالهدف الأكبر من وراء هذه التغييرات هو إعداد جيل في المستقبل يحمل "هوية الحوثي"، جيل يتغذى على فكرة الصراع المستقبلي، سواء كان داخلياً أو خارجياً، على المستوى اليمني، هناك تحريف متعمد لتاريخ اليمن القديم، الذي يُعد مصدراً للاعتزاز لأبناء الجمهورية، وتحاول الجماعة إحلال رموزها الخاصة، بدءاً بالرسي وانتهاءً بحسين بدر الدين الحوثي، هذا المنهج يهدف إلى تجهيل الشعب برموزه التاريخية أو بتلك الرموز التي كان لها دور في محاربة حكام السلالة المنتسبين للهاشمية السياسية، بهدف عزل الجيل عن جذوره الوطنية الحقيقية.

وأضاف الحميدي، في تصريحات لـ"جسور بوست": إن ما يحدث في المدارس اليمنية، تحت قبضة الحوثيين، هو أكثر من مجرد تعديل في المناهج الدراسية، إنها عملية ممنهجة لإعادة تشكيل العقول، وتغيير الهوية، وغرس بذور الكراهية والولاء المطلق لجماعة معينة، هذه السياسات تحمل في طياتها تداعيات خطيرة وطويلة الأمد على النسيج الاجتماعي والمستقبل السياسي والأمني لليمن فالأطفال والشباب الذين يكبرون في بيئة تعليمية تُفرض عليهم فيها الشعارات، ويُعاقبون على التعبير عن آرائهم، ويعيشون تحت رقابة دائمة، سيُصابون باضطرابات نفسية عميقة، فالخوف والقلق يصبح جزءاً من شخصياتهم، ويصعب عليهم التفكير النقدي أو اتخاذ قرارات مستقلة، إنهم جيل يُبرمج على الطاعة، لا على الإبداع.

وتابع: عندما تتغير الولاءات من الوطن إلى جماعة معينة، وتُزرع بذور العداوة بين أبناء الشعب الواحد، فإن النسيج الاجتماعي يبدأ في التمزق. الصداقات تنهار، والعلاقات الأسرية تتوتر، ويصبح الانقسام هو السمة الغالبة على المجتمع، هذا ما شهدناه في قصص سلمى وعمار، حيث تغيرت الصداقات وأصبح بعض الأصدقاء خصوماً، كما أن الهدف من إعداد جيل يحمل "هوية الحوثي" هو إعدادهم لصراع مستقبلي. هذا يعني أن الحرب لن تتوقف عند حدود الجيل الحالي، بل ستُورث إلى الأجيال القادمة، مما يجعل أي عملية سلام أو مصالحة وطنية في المستقبل أكثر تعقيداً وصعوبة. وبتحويل المدارس إلى ثكنات عسكرية ومراكز للتعبئة الأيديولوجية، تُفقد المؤسسة التعليمية وظيفتها الأساسية في بناء الفرد والمجتمع، تدهور جودة التعليم، ونقص الكفاءات، وغياب المواد الأساسية، يُنتج جيلاً لا يمتلك المهارات اللازمة للمساهمة في التنمية أو بناء الدولة.

واختتم حديثه: إن ما يحدث في المدارس اليمنية اليوم هو جريمة بحق الأجيال القادمة. إنها محاولة لإبادة ثقافية وفكرية تهدف إلى محو كل ما هو جميل وإنساني في نفوس الأطفال، واستبداله بعقيدة الحرب والكراهية، إن العالم أجمع مطالب بالتحرك لحماية هذه الأجيال، وضمان حقهم في تعليم محايد وإنساني، بعيداً عن براثن الصراع والتطرف، ويجب أن تعود المدارس أماكن للعلم والأمل، لا ساحات لسرقة الأحلام وتدمير مستقبل وطن بكامله.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية